مع قرب استحقاق انتخابات الرئاسة في مصر, والتي تتصارع عليها إرادات إقليمية ودولية وتتنطع حولها رؤى وتصورات متباينة, تبدو صورة نظام الحكم في مصر بحالة شبه فوضوية, فمع تصاعد دور الجماعات الإسلامية التي شوشت على كل صور التغيير في المشهد المصري, أضفت عليه طابعا كارثيا مسيئا بالكامل للحالة الحضارية المصرية المعروفة عبر التاريخ, تتجدد محاولات الهيمنة على الشارع, وتحويل البلد بأسره الى مستوطنة متخلفة من الشعارات والممارسات البدائية المتناقضة أصلا مع الهوية المصرية, وتبدو المؤسسة العسكرية المصرية, وهي المؤسسة الوطنية الوحيدة المتماسكة في مصر, في موقف لا تحسد عليه بالمرة أمام محاولة بعض التيارات الدينية تجييش وتعبئة الشارع المصري ضد قيادة المجلس العسكري الذي يدير كل عمليات إدارة الوضع الداخلي في مصر وبما يجنب البلد خسائر مضافة ومضاعفة وبشكل قد يضع مصر على خطى دول تعيش المأساة كالعراق والصومال! مصر اليوم تقف أمام منعطف تاريخي يتمثل في تصفية كل التركة الثقيلة والموجعة لحركة 23 يوليو ,1952 والتي صبغت المشهد المصري بقيود تاريخية من تحديد شكل وطبيعة نظام سياسي جعل العسكر في جوهر وصميم اللعبة السلطوية وبشكل أثر حتى على طبيعة البناء المجتمعي التي تأثرت كثيرا بالمتغيرات الكبرى التي أحدثتها حركة 23 يوليو في عمق النسيج المصري وبطبيعة الحال فإن هناك ثأراً تاريخياً لم تتم تصفية كل حساباته وملفاته بين المؤسسة العسكرية والأحزاب الدينية وفي طليعتها جماعة الإخوان المسلمين الذين دخلوا منذ عام 1954 في صراع مرير مع قيادة حركة يوليو ومع جمال عبدالناصر ومجموعته شخصيا وهو الصراع الذي ذهب ضحيته أوائل عام 1955 الرئيس المصري الأسبق والأول المرحوم اللواء محمد نجيب وانفجر الموقف بشكل كامل بعد محاولة الاغتيال الفاشلة في الاسكندرية التي تعرض لها عبدالناصر على يد الاخواني محمود عبداللطيف, والتي فتحت أبواب جهنم والسجن العربي وسجن الواحات أمام الجماعة التي ضربت فيما بعد مرات عديدة وبقسوة كان أشدها عام 1965 وحيث أعدم بعد ذلك أحد أبرز المفكرين الأصوليين, وهو المرحوم سيد قطب الذي ألهم تفسيره الحركي للقرآن الكريم في كتابه (في ظلال القرآن) العديد من الحركات الدينية في الشرق القديم, وظلت الجماعة تعيش المطاردة والتكيل حتى رحيل عبدالناصر ومجيء عهد الرئيس الراحل أنور السادات الذي خفف القيود الأمنية بعد عام 1976 وسمح بالمنابر السياسية وبقدر كبير من حرية التعبير بعد إعادة الحياة لحرية الصحافة لكن ليس بشكل مطلق, بل بأسلوب متقطع, وحالة القمع السلطوي الشامل قد أدت فيما بعد الى ظهور تيارات متطرفة من تحت عباءة الجماعة مارست أدوارا فظيعة في إشعال الشارع المصري بمعارك الإرهاب اعتبارا من أوائل ثمانينات القرن الماضي في ظل تصاعد التوتر بين السلطة والأقباط والصراع الداخلي العنيف حول ملفات إدارة الدولة, وإدارة ملفات العلاقات الخارجية, ومن بينها التزامات مصر الدولية والعلاقة الخاصة مع إسرائيل بموجب معاهدة السلام (كامب ديفيد) لعام 1978 لقد ذهب الرئيس أنور السادات اغتيالا ضحية لتنامي سطوة التيار الديني المتطرف, وترك مصر تغلي بصراعات ثأر دموية ومواجهات أخذت زمنا وجهدا طويلا ومضاعفا من نظام الرئيس السابق حسني مبارك خلال عهده الطويل الذي انتقلت فيه مصر الى مرحلة أخرى, ولكن ليس بعيدا عن ظل ورقابة ورعاية العسكر.
صحيح أن القيادة العسكرية الحالية والمجلس العسكري الذي يحكم مصر حاليا هو من نتاج النظام السابق, ولكن كل شيء يتحرك في مصر وينبض بالحياة هو بالنتيجة من نتاج 23 يوليو, واختفاء وتلاشي سطوة ولمسات وأنفاس قيادة الجيش المصري عن السلطة في مصر هو في الحقيقة أمر دونه خرط القتاد, ولن يتحقق أبدا في ظل الظروف الحالية المتسمة بالفوضى شبه الشاملة, و"الهرجلة" غير الواضحة, وانكشاف مصر الستراتيجي, وعدم تبلور شكل حقيقي, وثابت للنظام المصري البديل ولمؤسساته الديمقراطية المنتخبة في ظروف صحية وليس ظروف أزمة.
ما يدور حاليا من صراعات هو مجرد استعراض قوى لتيارات بعضها قديم وبعضها ناشئ وفي ظل رؤى ملتبسة وأفكار وتصورات غير واضحة للمستقبل, أما التظاهر من أجل إبعاد الجيش المصري عن السياسة فلن يغير من الأمر شيئا أبدا, لأن الضباط لن يسلموا السلطة أبدا لمدنيي الإخوان والسلفيين ففي ذلك مغامرة بأمن ومستقبل وحتى بوحدة مصر, سيظل الجيش ممسكا بعنان السلطة حتى تتغير العديد من الظروف الموضوعية, وهو أمر لن يحدث في المستقبل المنظور على الأقل.
لقد مر التاريخ المصري الحديث بعصر الناصرية ثم الساداتية ثم المباركية وجميع تلك العهود كان العسكر في ظلال المشهد السياسي وفي عمق الواقع المجتمعي, والجيش المصري أيا كان قادته لن يتركوا مصر لتقفز في المجهول, تلك هي الحقيقة وعلى المتضرر اللجوء لميدان التحرير أو العباسية أو للقضاء أيضا, لن ينسحب العسكر أبدا من بر مصر.
dawoodalbasri@hotmail.com
داود البصري : كاتب عراقي
0 التعليقات:
إرسال تعليق