مثل بوسترات أفلام الحركة الأمريكية كانت اللوحة بالدور الأول بنقابة الصحفيين، في إطلاق محمد البرادعي، مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية السابق، لحزبه «الدستور»، البوستر يحمل عنوان «عودة البرادعي».. عودة ربما لم تكن الأولى من نوعها، فالرجل اعتاد وتعود مع كل عودة له أن يغير الكثير مما عرفناه وألفناه عن عالم السياسة والتغيير.
مقدمات متشابهة ونتائج متضادة
فالرجل الذي بقي تحت نيران مدفعية ثقيلة منذ قرر الانتقال بحياته إلى مصر، لم ييأس أو يعتزل كما تمنى خصومه السياسيين، ولم يستسلم أو يزهد كما ظن حسني النية من مريديه، لكنه عاد من جديد بمعركة جديدة يكمل فيها سلسلة معارك، بدا فيها دوما الطرف الأضعف، وإن حملت نهاية الفيلم ابتسامة منتصرة على شفتيه، لافرق في ذلك بين معركة خاضها ضد بوش، أو ضد مبارك، أو حتى ضد فكرة مثلما هو الحال الآن.
بفارق 4 سنوات، ولُدا في نفس الشهر، الأول درس الحقوق في جامعة القاهرة، والثاني درس التاريخ بجامعة «يالا» الأمريكية، أما المصري فنجل نقيب المحاميين الأسبق، بينما الأمريكي نجل رئيس الولايات عن الحزب الجمهوري، ولد «البرادعي» عام 1942 وبعدها بأربع سنوات ولد «بوش» الابن، سارا في خطوط متوازية، لم يتصورا أن تتقاطع بهذا الشكل وبهذه الحدة في نقطة واحدة، كانت «العراق»
أمل إصلاح الوكالة من الداخل
لم يعلم طرفا المعادلة، أن العراق ستكون كلمة السر في علاقة لم تكن قد بدأت بعد، وإن بدأت خيوطها تتشابك مبكرًا، ففي نهاية صيف 1997، وبينما يتناول الدكتور البرادعي عشاءً خفيفًا مع زوجته احتفالاً بانتخابه مديرًا عامًا لوكالة الطاقة الذرية، خلفًا للسويدي هانز بليكس، وهي المناسبة التي وصفته مجلة «نيوز» النمساوية فيها بعنوان «الأمل في إصلاح أسلوب الإدارة داخل الوكالة الذرية».
كان بوش يعد لحملته الانتخابية للفوز بولاية تكساس مرة ثانية، وهو الفوز الذي تحقق فيما بعد، محققًا رقمًا قياسيًا لم تشهده الولاية طوال تاريخها، وأصبح أكبر داعم له في انتخابات الرئاسة، وعلى خلفية خطوطهما المتوازية كانت العراق تشهد في نهاية نفس العام بوادر طرد مفتشي وكالة الطاقة الذرية من العراق بأمر من رئيسها صدام حسين.
مرت سنوات، أثبت خلالها البرادعي قدرته علي إدارة الوكالة الضخمة، ووصل فيها بوش للحكم ودخل بأمريكا والعالم كله في أتون «الحرب على الإرهاب»، وفي عام 2002 بدأت العراق في جذب خطوط طرفي المعادلة لمزيد من التقارب، بدأت بالخطاب الذي ألقاه رئيس الولايات المتحدة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 12 سبتمبر 2002، ووصف فيه العراق بأنه «يشكِّل تهديدًا لسلطة الأمم المتحدة وللسلام، حيث إنــه مــازال يواصل تحدي قرارات الأمم المتحدة الداعية إلى تدمير أسلحته للدمار الشامل»، والشهر الذي يليه وافق المجلس بالإجماع على القرار 1441 الذي ينص على المجلس أن «العراق كان ولايزال في حالات خرق جوهري لالتزاماته المنصوص عليها»، وقرر أن يمنح العراق فرصة أخيرة للامتثال لـ«التزاماته المتعلقة بنـزع السلاح»، وقرر كذلك أن يعقد اجتماعًا فور تلقيه أي تقرير يقدم من سلطات التفتيش بأن العراق يتدخل في أنشطته، وبدأ خطوط البرادعي وبوش في التلاقي.
بعدها بـ3 أشهر، هاجمت خلالهما إدارة بوش العراق بكل قوة، واتهمتها بإخفاء أسلحتها النووية، وقف «البرادعي» من جديد بمجلس الأمن في 7 مارس 2003، قبل إنطلاق الحرب على العراق بأسبوعين، وكان التصادم أقوى وأكثر قوة، هاجم فيه «البرادعي» الولايات المتحدة وبريطانيا وأعلن أن الوثائق التي ترتكز عليها الدولتان والتي أفادت أن العراق حاول شراء اليورانيوم من النيجر غير صحيحة.
«بعد تحليل معمق استنتجت الوكالة الدولية للطاقة الذرية بمساعدة خبراء خارجيين أن هذه الوثائق التي شكلت أساس التقارير حول عمليات شراء يورانيوم بين العراق والنيجر هي في الحقيقة غير أصلية»، قبل أن يكمل «أستطيع أن أبلغكم اليوم فيما يتعلق بمدى تمكن العراق من إنتاج أسلحة نووية، أن التفتيش في العراق يتحقق نحو الأمام.. ولاتوجد هناك أي إشارة إلى أن العراق استخدم أنابيب الألمنيوم التي استوردها في إنتاج أجهزة الطرد المركزي لإنتاج أسلحة نووية.. وليس هناك أي إشارة إلى أن العراق استخدم وحدات المغناطيس عالي القوة التي استوردها في ماكينات تخصيب اليورانيوم.. كما أن الوكالة تحققت من أنه ليس هناك أي إشارة إلى أن العراق حاول استيراد اليورانيوم المخصب منذ عام 1996».
وضوح وثقة «البرادعي» لم تمنع «بوش» وقتها من شن حربه على العراق، مستندًا على المعلومات التي أعلن مدير الوكالة عدم صحتها.
أيام وسنوات مرت، ظلت العراق خلالها نقطة ساخنة في العلاقة بين الطرفين، وفي ذروة انتخابات الرئاسة الأمريكية عام 2004، قذف البرادعي، بقنبلته في وجه «بوش»، بتسريب معلومات عن اختفاء آلاف الأطنان من المتفجرات من العراق، قنبلة وصفتها «وول ستريت جورنال» بعنوان «انتقام رجل الأمم المتحدة»، وكتبت عنها في افتتاحيتها «صوتت الأمم المتحدة هذا الأسبوع في الانتخابات الرئاسية الأمريكية .. واستخدمت 377 طنًا من المتفجرات العراقية لكي تعلن عن معارضتها لإعادة انتخاب جورج دبليو بوش».
الولاية الثالثة
تلقى «بوش» الضربة، وسريعًا كان يجهز للرد من خلال حملة كبيرة لمنع ترشيح «البرداعي» رئيسًا للوكالة للمرة الثالثة، بدأتها وزيرة الخارجية كوندليزا رايس والمندوب الأمريكي لدى الأمم المتحدة جون بولتون، من خلال حملة لإقناع مجلس الوكالة بانتخاب وزير الخارجية الأسترالي ألكساندر داونر في هذا المنصب، بحجة عدم جواز انتخاب الشخص نفسه لثلاث ولايات متتالية، وهي نفس النقطة التي تبناها كولين باول وزير الخارجية حين تحدث لوكالة الأنباء الفرنسية، وقال «يجب على البرادعي أن يتنحى، نؤمن بسيادة الوكالة، لكن القاعدة الجيدة تقول (ولايتين مدة كافية)».
جهود ضخمة شاركت فيها مدرسة الدبلوماسية الأمريكية بالكامل دفعت روبرت إينهورن، الذي كان مساعد وزيرة الخارجية لمنع الانتشار النووي للتعليق «بالتأكيد كل هذا الجهد له ما يبرره من جانب الإدارة، وأعتقد أن مواقف البرادعي من العراق وإيران هي السبب».
فشلت الحملة الأمريكية، وأعيد انتخاب البرادعي مديرًا للوكالة الدولية، وبعد عام واحد، كان يعتلي المسرح ليتسلم جائزة نوبل للسلام، ويستمع إلى كلمات أولى دانبولت رئيس لجنة الجائزة، الذي وصفه بـ«مدافع قوي عن الإجراءات التي تعزز جهود الحد من انتشار الأسلحة»، قبل أن يبتسم ويضيف أن منح الجائزة لا ينطوي على أي انتقاد مستتر لواشنطن، وأن جائزة البرادعي «ليست ركلة في الساق لأي دولة».
طريق التغيير
وقتها جاء البرادعي إلى مصر وتلقى قلادة النيل من الرئيس السابق حسني مبارك، الذي قبل أن تمر 5 أعوام على هذه اللحظة، وجد نفسه وجهًا لوجه مرة ثانية في مواجهة البرادعي، المرة الأولى ليقلده أرفع الأوسمة في بروتوكول الدولة المصرية، والثانية للحفاظ علي دولته و نظامه السياسي، أمام الرجل القوي الآتي من الغرب وما يمثله من حلم التف حوله الآف الشباب، ففى فبراير ٢٠١٠، في صالة الوصول بمطار القاهرة الدولي، وبعد أن هبطت الطائرة القادمة من فيينا، وعلى متنها محمد البرادعي مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، خطب البرادعي في آلاف الشباب والناشطين السياسيين الذين اصطفوا على أرصفة المطار لاستقباله، ربما كانت أقصر خطبة سياسية شهدتها الحياة السياسية في مصر «التغيير قادم لا محالة»، وهو ما كان وبمليونية هو الوحيد الذي تنبأ بها.
البرادعي الذي هوجم بضراوة إعلامية قبل الثورة، وأثنائها بخراطيم المياه، وبعدها من فصائل تنتمي في معظمها للإسلام السياسي، وقرر الانسحاب مما سماه «بالمسرحية الهزلية» في انتخابات الرئاسة، قرر العودة من جديد، بحزب «الدستور» ليكون «طريق الشباب للوصول للحكم خلال أربع سنوات».
المصرى اليوم
0 التعليقات:
إرسال تعليق